الأربعاء، 2 أكتوبر 2024

الساق الثانية / بقلم / حيدر الدحام

 الساق الثانية

بدأ الملل يدب إليه، وحالة التذمر صفة ملازمة له، جلس على حافة المقعد ووضع تقارير المختبر وصور الأشعة فوق رجله التي بدأت تهتز بسرعة دون توقف، توحي بعدم الاستقرار ونفاذ الصبر.
- ألم يحن دوري بعد ؟
- مازال أمامك ثلاثة من المراجعين سيدي.
أنتفض قائمًا، أخرج علبة السكائر من جيبه الأمامي وقام بإشعال سيكارته، فلاحظ امتعاض الجالسين من الدخان الكثيف الذي ملا المكان، خرج إلى الممر الخارجي ليكمل حرق ما بقي منها، نفث أنفاس دخانه عاليًا ليصعد للسماء بلا عودة، كأنه يودع روحه معها.
ومالبث أن سمع نداء السكرتيرة بصوتها الجهوري :
-لقد حان دورك سيدي، تفضل .
أحس بثقل ساقيه، وخفقان قلبه يُسمع من مسافة ليست بقصيرة، يبست شفتاه مع رعشة يديه اللتين ما عادتا تتحملان رفع الأوراق من المنضدة المجاورة لمقعده.
- هل أستطيع المساعدة أخي ؟ بادره أحد المراجعين بعد أن شعر بتعبه وحالته الصحية المزرية.
لم يجبه، وتقدم إلى باب الطبيب بخطوات ثقيلة تحسبها سير سنين، دخل بدون سلام وارتمى بثقل جسده على كرسي قبالة الطبيب.
- هون عليك يا عزيزي، ما هي حالتك؟
ناوله التقارير وصور الأشعة بدون أن ينبس بكلمة، تفحصها جيدًا، ونظر إليه مستغربًا :
-مما تشكو ؟ وكم مضى على هذه الحالة ؟
- إنها لزوجتي وليست لي، أرجوك ماذا عليّ أن أفعل؟
وبدأ انفعاله يزداد مع نظرات شاخصة تشبه الاغماء.
- اهدأ.. اهدأ .. أنها حالة خاصة وصعبة، كان عليك احضارها معك لنشخص المرض جيدًا.
- لكنها معي في الخارج، أردت أن لا تسمع أو تعلم بمرضها، يكفي ما عانته سابقًا، لقد تحملت كثيرًا، فهي بساق واحدة، وأخشى عليها من فقدان الأخرى، أو فقدان حياتها.
قاطعه بهدوء وهو يربت على كتفه :
-الأعمار بيد الله، كن مؤمنًا، لكل مرض علاج، ليكن معلومًا لك أن التشخيص نصف العلاج، وهذا واجبي ورسالتي في الحياة.
- دكتور .. بدأ المرض يزحف على الساق الثانية، رغم ما عانته سابقًا فهي أمًا لثلاثة أطفال أصرت على إنجابهم ليكونوا ذكرى منها بعد رحيلها.
تعاطف الطبيب كثيرًا معه، ناوله منديلًا ليمسح دموعه التي نزلت بغزارة لتبلل لحيته الكثة التي لم يحلقها منذ أسابيع.
- حسنًا ، لنترك الحزن جانبًا، ادخل زوجتك لأشخص حالتها.
قاطعه : لكن أرجوك لا تكشف لها حقيقة ما تعاني.
خرج ليصطحب زوجته التي جلست على كرسيها المتحرك بكل هدوء، والابتسامة تعلو محياها، عندما نظر إليها الطبيب وتفحص قدمها، سكت برهة متأملا الأشعة والتقارير بدقة تنم عن ذكاء وفطنة.
- من قال لكم أن الورم قد وصل الساق الثانية ؟!
- هذا ما عرفته من المختبر.
- غير صحيح، إنها سليمة، وهذا الورم نتيجة التهاب سببه الجلوس المفرط على الكرسي المتحرك، لتنهض وتمشي على عكازة أو قدم صناعية.
حركت كرسيها بقوة يديها، لتقترب من الطبيب، مستجمعة شجاعتها وبرودة أعصابها :
-أعلم جيدًا إنك تحاول طمأنتي ورفع معنوياتي، شعور قاسٍ أن يعاني المرء من نقص في جسمه يمنعه من ممارسة دوره في الحياة، رغم إني قدمت الكثير لعائلتي وزرعت فيهم روح المحبة والسعادة، إلا أنه كان على حساب صحتي التي فقدتها مبكرًا، لقد مللت العيش، وأنا مستعدة للرحيل، اخبرني كم بقي لي من الوقت ؟
- الواضح من كلامك إنك أمرأة قوية ذات إرادة وعزيمة نادرة، عندما تحبين عائلتك فهذا دليل على حبك للحياة.
سيدتي أنا صادق معك، أنت بخير وتستطيعين أن تنجبي الابن الرابع !!
لكن عليك تسميته على اسمي ..
حيدر الدحام


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مظلة الحب / بقلم / عقاد ميلودة

  مظلة الحب مظلة الحب لما تغطينا تفتح المشاعر ينابيعا تسقينا تنسينا ما مضى وتحيينا همسات مدوية تسافر بنا لعالم متفرد خلق لأجلنا حبيبي لم تنط...