«[=]»خواطر طبية *مهنة المريض*«[=]»
من ذكرياتي : د/علوي القاضي.
... بعد ممارسة مهنتي كطبيب قرابة الأربعين عاماً وصلت إلى قناعة أن كل شيء أطلبه أو يطلبه الزملاء من المريض عسير جداً ومرهق ، وأنا أقول هذا لأنني طبيب ولم أجرب قط صعوبة الأمور التي أطلبها من المرضى ببساطة وسلاسة
... مثلاً ، كم من مرة طلبت من مريض القلب والضغط أن يلتزم بقائمة الممنوعات والمسموحات من الغذاء ، أو يقلع عن التدخين ، أو يكف عن التوتر والإنفعال والقلق ، أو يجري تحليلاً مخبرياً لنسبة الكوليستيرول بالدم ، أو يقوم بعمل قسطرة على الشرايين التاجية لتركيب دعامات إذا أهمل تنفيذ كل ما سبق
... ولكن عندما أصير أنا المريض أكتشف أن هذه الطلبات عسيرة وشبه مستحيلة وتسبب إجهاداً نفسياً النظير له
... وحينما أرغمت على قضاء فترة في المستشفى لإجراء جراحة ، وكان طلب الأطباء الزملاء واضحاً :- « إسترخ ! نم » ، هكذا رقدت في الفراش ، ولأن المكان والفراش غريبان ، فقد نمت مفتوح العينين ، أحاول إستدعاء النوم ، لكن هذا مستحيل ، ومما زاد أرقي أنه كان هناك شخص يئن في مكان ما عاجزاً عن التنفس ، وكلما أصغيت له شعرت أنا نفسي بأنني أختنق ، أخيراً داعب النوم جفني ، وبدأ ذلك المخدر اللذيذ يسري في كياني ، لم أعد هنا ، صرت هناك
... فجأة شعرت بيد عنيفة تهزني مراراً ، حينها حدثت نفسي ، هل هي يد الموت ؟! ، وهل حقا الموت يهز ضحاياه لحظة النهاية ؟! فتحت عيني ، لأجد ممرضة عريضة المنكبين قوية البنية تهزني بقوة :-
ـ « لقد وصف لك الطبيب قرصاً منوماً » ، هكذا إبتلعت القرص وأغمضت عيني من جديد ، هنا شعرت بمصاص دماء يغرس أنيابه في ذراعي ويمتص دمي بنهم ، فتحت عيني مذعوراً ، لأجد ممرضة عصبية تغرس محقناً في ذراعي وتقول :-
ـ « طلب منا الطبيب هذه العينة » ، ولماذا يجب أن تؤخذ وأنا نائم ؟! ، أنا كطبيب لا أعرف عينة تؤخذ والمريض نائم سوى عينة تشخيص مرض (داء الفيل) ، على كل حال بدأ القرص المنوم يعمل وثقل جفناي فعلاً ، هنا شعرت بمن يهزني بقوة :-
ـ « جرعة دواء (الفجر) ، خذها ونم » ، إبتلعت الدواء شاكراً وعدت للنوم ، عندما سمعت من يصرخ منادياً بإسمي بقوة ، فتحت عيني بصعوبة لأجد ممرضة تدس كبسولة بين شفتي :-
ـ « هذا هو الدواء المنوم ، سوف تحظى بنوم هادئ » ، قلت لها وأنا أبتلع القرص :-
ـ « لكني كنت أحظى بنوم هادئ فعلاً » ، قالت بلهجة عملية شأن من لا وقت لديها لهذا السخف :-
ـ «هذه هي التعليمات ، إذا لم ترد أخذ هذا القرص فالرجاء أن تخبر الطبيب بذلك » ، بدأت أغمض عيني ثانية
... وهنا رأيت من وراء الستار أن شمس (الصباح) قد أشرقت ، وأن العالم كله قد إستيقظ ودبت الحياة بالكون ، وبدأت أسمع أصوات الجلبة بالخارج ، أغمضت عيني لأسمع من يهتف :-
ـ « يا لك من كسول ! ، كل هذا النوم ولم تشبع بعد ! » ، فقد كان هناك حشد من أصدقائي وزملاءي جاءوا ليعودوني بالنيابة عن النقابة ، رحت أشكرهم وأتبادل الحديث معهم ، ومن حين لآخر يسقط رأسي ، وأبدأ في الغطيط ، في النهاية عرفت أنهم إنسحبوا دامعين واحداً تلو الآخر ، وقال بعضهم لبعضهم في الخارج :-
ـ « إنه مريض ومنهك جداً ، لا يستطيع إستكمال جملة واحدة ، واضح أن هذه هي المرة الأخيرة »
... وسمع من لم يسمعوا هذا الخبر فجاءوا لوداعي ، وهكذا رحت أغمض عيني لربع ثانية ، فقط كي أفتحهما لدى قدوم زوار جدد ، وعند (العصر) قلت الحركة نوعاً فأغمضت عيني ، هنا شعرت بمن يهزني بقوة :-
ـ « موعد الدواء المنوم ! »
عندما جاء (المساء) أغمضت عيني ، وهنا سمعت من يضحك :-
ـ « إذن أنت نائم والكل قلق عليك »
... كان هذا هو الطبيب الجراح المعالج ، وقد جاء ليطمئن علي ، وبعد رحيله دست الممرضة بعض الأقراص في فمي ، وجاءت أخرى تغرس المحقن في ذراعي ، ثم جاء عامل النظافة ليمسح المكان
... عند (الفجر) جمعت حاجياتي وارتديت ثيابي ، وطلبت من يأتي ليقلني إلى البيت ، سألتني الممرضة في جزع عن وجهتي ، فقلت لها :- البيت ، البيت ،،، قالت محتجة إن حالتك خطيرة ، فقلت لها إن ما أفعله هو السبيل الوحيد لأنقذ حياتي ، بقائي هنا هو نهايتي
... هنا أدركت كم يعاني المريض نتيجة انصياعه وطاعته لما نمليه عليه من توجيهات وتعليمات ومحاذير ، الذي في نهاية المطاف هو إبتلاء له من الله
... نعم ، الٱن أستطيع أن أعترف أن مهنة الطبيب صعبة ، لكن الأصعب منها بمراحل مهنة المريض ، إنها تضعك تحت طائلة الموت بالمعنى الحرفي للكلمة
... تحياتي ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق