هِندٌ: في عَينَيها تَنامُ الفُصول
زياد دبور
إلى روح أمي التي رحلت بعد أن أضاءت ستة وثمانين عاماً من العطاء والمحبة...
إلى التي كانت تجمعنا بوصيتها الدائمة: "أحبوا بعضكم... كونوا لبعض"
إلى التي علمتنا أن العطاء نعمة، والكريم حبيب الله...
في البَدءِ كانَ النُّورُ صَمتاً
حَتّى تَجَلَّت في الكَونِ "هِندُ"
فَصارَ الصَّمتُ نَشيداً
وَالوَطَنُ امرَأَةً تَمشي وَتَمتَدُّ
في عينيها تنامُ الفصولُ الأربعةُ
ربيعٌ يضحكُ في دفءِ ابتسامتِها
وصيفٌ يشتعلُ في عزمِ إرادتِها
وخريفٌ يتساقطُ من حكمةِ كلماتِها
وشتاءٌ يدفئُ الأرواحَ بحنانِها
ثمانونَ عاماً... وكأنَّ الزمنَ
خيطٌ من نورٍ في مِسبحةِ أيامِها
كلُّ حَبَّةٍ قصةُ عطاءٍ
وكلُّ دعاءٍ خارطةُ أحلامِها
في قلبِها نبضُ الحياةِ يَسري
كنهرٍ يتدفقُ في السِّرِ والجهرِ
تُعطي ولا تنتظرُ المقابلَ
كالشمسِ تُشرقُ في الصبحِ والفجرِ
كُلَّما ضاقَت بِنا الأَرضُ
كانَت حُدودُ قَلبِها تَتَّسِعُ
حَتّى تَصيرَ البِحارُ في مَحَبَّتِها
جَداوِلَ صَغيرَةً تَركَعُ
في ثوبِها المطرزِ بخيوطِ الصبرِ
حكايةُ شعبٍ يأبى الانكسارَ
وفي عقدِها المرصعِ بالحكمةِ
تاريخُ أمةٍ تعشقُ الاستمرارَ
في سجودِها تنحني السماءُ
وفي دعائِها تخشعُ النجومُ
وحين تتلو آياتِ المحبةِ
تصغي الملائكةُ وتدومُ
في غُرفَةِ المَشفى الأَخيرَةِ
رَأَيتُ الجِبالَ تَنحَني إِجلالاً
لِجَبَلٍ أَعظَمَ مِنها شُموخاً
وَأَرسَخَ في الأَرضِ ظِلالاً
لَم تَكُن أُمّاً فَحَسب
بَل كانَت وَطَناً يَمشي عَلى قَدَمَينِ
تَحمِلُ في عَينَيها خَرائِطَ المَحَبَّةِ
وَفي قَلبِها مَوانِئَ اليَقينِ
كانَت إِذا قالَت: "أَحِبّوا بَعضَكُم"
تَتَدَفَّقُ الأَنهارُ في عُروقِ الرُّوحِ
وَإِذا هَمَسَت: "كونوا لِبَعضٍ"
تَتَعانَقُ السَّهولُ مَعَ السُّفوحِ
تركتْ في كلِّ ركنٍ بصمةً
وفي كلِّ قلبٍ حكمةً مضيئةً
حتى غدتْ خطواتُها في دربِنا
نجوماً تهدي الأجيالَ المجيئةً
في ذاكِرَتِها يَسكُنُ التّاريخُ
كَنَهرٍ يَجري بَينَ ضِفافِ الحِكمَةِ
يَروي لِلأَجيالِ حِكايَةَ وَطَنٍ
يَسكُنُ في قَلبِ امرَأَةٍ عَظيمَةِ
وَحينَ رَحَلَت...
عَرَفنا أَنَّ الأَوطانَ لا تَموتُ
بَل تَتَحَوَّلُ إِلى نُجومٍ
تُضيءُ دَربَ العائِدينَ
إِلى مَوانِئِ الحُبِّ وَالرُّجوعِ
هِندٌ...
اِسمُكِ يَختَصِرُ جُغرافيا الرُّوحِ
مِن قِمَمِ الجِبالِ إِلى أَعماقِ البِحارِ
يَبدَأُ بِالهاءِ كَهَديرِ المَوجِ
وَيَنتَهي بِالدّالِ كَدَوامِ الأَنهارِ
وإذا سألَ الأحفادُ يوماً
عن سرِّ العطاءِ وعمقِ الانتماءِ
فليقرؤوا في كتابِ أيامِها
كيف تكونُ الأوطانُ في قلبِ النساءِ
وَها نَحنُ نَمشي في دَربِكِ
نَحمِلُ خَرائِطَ وَصاياكِ
مِن وَطَنٍ إِلى وَطَنٍ
وَمِن بَحرٍ إِلى بَحرٍ
كَقَوافِلِ النُّورِ
تَعبُرُ جِبالَ الزَّمَنِ
بَحثاً عَن شاطِئِ لِقائِكِ
في جَنَّةِ الخُلودِ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق