الأربعاء، 23 أكتوبر 2024

عبق الذاكرة / بقلم / عائشة ساكري

 عبق الذاكرة

دندنات على أوتار الماضي والحاضر والمستقبل تتناغم لتؤلف لحناً عذباً، وكأنه نبع ماء صافٍ ينهل منه العامة، فيسقي الجميع ويرتوي منه من عانى هذا الظمأ القاسي.
وقصتي اليوم لقاء من عبق الذاكرة.
في هذا المساء، التقينا صدفة على ضفاف شواطئ البوح، وبنظرة خاطفة، كان يسرق ملامح وجهي في الخفاء، وكأنه يريد أن يقول لي شيئاً دفيناً في أعماقه، لكنني شعرت أن شيئاً ما يمنعه من البوح. اقترب مني وحاول لمس يدي التي كانت غائصة في الرمل، تداعبه برقة وهدوء، وفي القلب شوق وكبرياء...
حاول الاقتراب أكثر، وأسند كتفه الأيمن على كتفي الأيسر، فتسارعت دقات نبضين معًا في الوقت نفسه. تنفس الصعداء، مرتاحًا لما شعر به من شعور متبادل، وقال لي بنبرة خافتة:
"كيف السبيل إلى مجاراة برج استوطنه قلبي...؟ فأنا عاشق من سلالة القمر، أتسلل في الخفاء والنجوم خير شاهد ودليل.
ما السر الدفين فيكِ يا صاحبة الستين عامًا، بعد كل ما مر بكِ من سنين؟
لم أتوقع أن جمالكِ يظل راسخًا في هذا العمر الثمين.
يا ابنة قلبي؛ أتقبلين أبيات شعر فيكِ؟"
قلت له:
"هات ما دوّنت، يا نبضي المكنون،
الذي ظننتُه قد غاب عني ولن يعود.
قد تركت فراغًا بداخلي طيلة مدٍّ من سنين."
أنا امرأة، بداخلي ربيع متجدد،
أقاوم ولا أقف حائرة في متاهات الريح.
سرعان ما يتفتح برعمي، وأزهر من جديد.
فقال:
"ها أنا بين ثنايا النبض والوتين،
كتبت وأبحرت في وصفكِ بأبيات
منقوشة على صدري منذ سنين...
رسمتكِ تعبيرًا وكلمات،
وعلى ورق الغياب،
رسمت الوعد بأحرفي...
عشت في الدروب
كل جنون هوايتي،
ولم يبقَ مني سوى
لوعة دفتري...
رسمتكِ همسة في قطر الندى،
ريحانة عذراء على الشفاه الظمأة،
وخدودكِ بلون ورد الجلنار الرماني،
الذي زادك جمالًا وتفانيًا.
فاتنتي أنتِ،
دوّنت رسمك باليد،
وبالخط العريض، بلا تردد.
قلبي على الورق يئن
في لهفة المتعطش.
أنسيتِ أنني شاعر متمرد؟
أيتها الساكنة بين ثنايا سطوري
التائهة رغم عهدي المتجدد.
أنا الذي أجيد نقش شعري كالمرايا،
وعلى نياط القلب رسمت
بريشة عذراء كل مواجعي.
وفي عبق الزهور دفنت
رحيق حبي المتشرد...
بين الجفن والورق ضاعت
بقايا العمر في أوحال
دربي المتبدد...
وإن ناديتني، كنت الملبّي،
وفي الآلام قد سطرتُ
نخبي بلا تردد."
فقلت له:
"أي كلام بعد تلك الخمائل؟
أي بيان وأي سحر أثمل لقاءنا
بتغريد العنادل؟
العين تذرف على نهدي
خوابي حبر إبداعك كالسيل."
عذرًا سيدي،
فالعمر نعيشه مرة، لا مرتين،
وإنه مجرد رقم، والأيام تشهد.
فأنا مثل ابتسامة مرسومة على الشفاه،
أعيش في الأحلام، وقلبي ببراءته ينبض.
لا تبحث عني في السنين الماضية،
ولا تسأل عني في الليالي العتيقة.
أنا هنا والآن، في لحظة متجلية.
أرقص في وكري،
وأكتب قصيدتي البهية.
لدي دقائق فقط من العمر المتبقية،
وأكره الحزن والخمول
الذي يتسلط عليّ.
فلماذا لا نعيش هذه اللحظات
بكل حرية؟
ونغني للحياة، ونزرع فيها
السعادة الوفية.
العمر ليس أيامًا تذهب بلا عودة،
بل هي اللحظات التي نعيشها
بصدق وسعادة.
عش يومك كما لو كان الأخير،
واحتضن الأحلام، وانظر
بعيدًا إلى الأفق الأسير.
فالحياة ترسو في الستين،
دعنا نتمتع بها بحرية، يا حبي الدفين،
ونترك بصمة تذكرنا بالحب والأمل
في هذه الدنيا السخية بلا كلل.
عذرًا سيدي، فالحياة قصيرة
ولمَاذا لا نملؤها بالفرح، ونزرع فيها
الفرح والسعادة الوفيرة؟.
عائشة ساكري_تونس . 30_9_2024


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق