الأربعاء، 4 سبتمبر 2024

وليد من رحم ميت / بقلم / سحر الرشيد

 من رذاذ معركة الموصل

بقلم سحر الرشيد فانكوفر/ كندا
وليد من رحم ميت
في ليلة شتاءٍ باردة يحاول علي النوم، لكن الأرق يحكم سيطرته عليه، تمر الساعات ثقيلة وهو يستمع لأخبار المعركة في الجانب الغربي لمدينة الموصل؛ معارك شرسة في مكان مكتظ، وأبنية قديمة عمرها مئات السنين.
تصحو زوجة علي منزعجة من تقلباته:
ـ ما بالكَ يا علي، لِمَ لا تنام؟!
الحمد لله نحنُ الآن في أمان بعد أن غادرتنا المعركة، رغم الدمار الذي حل في المدينة، لكنا أحياء وسوف نعيد بناء كلّ شيء، أهم شيء هو الأمان.
ـ المعركة الآن في المحلة التي يسكن فيها إخوتي؛ خالد وعاصم، بيتهم قديم جداً؛ انقطعت حتى الرسائل التي كانوا يرسلونها سراً، أنا قلق جداً.
ـ لا سبيل لمساعدتهم إلا الدعاء لهم بالنجاة، كلها أيام وتنتهي المعركة هناك، وسوف يكونوا بإمان إن شاء الله.. أرجوكَ حاول النوم.
ينام علي نوماً قلقاً متقطعاً ليصحو على أخبار الدمار الذي حل بمحلة إخوته لإصرار بعض مقاتلي التنظيم الإرهابي على متابعة القتال دون استسلام أو هروب.
ـ اضطرت قوات الجيش الاستعانة بالطائرات الأمريكية لتقصف تلكَ المباني المتهرئة بصواريخ مدمرة لأحياء بأكملها.
ـ يحاول علي الاتصال بإخوته دون جدوى، يسيطر عليه القلق ويصبر نفسه قائلاً:
ـ لربّما لا يوجد لديهم شحن في الهاتف، لكنهم رغم انقطاع الكهرباء فقد برعوا بشحن الهواتف ببطارية السيارة.. هم يحملونها معهم في كل مكان!! لربّما لا يوجد لديهم رصيد كافٍ، سوف أرسل لهم رصيداً، لعل المحاولة تنجح.. المحاولات تفشل، ما يقلقني أكثر حال أنوار زوجة أخي خالد في أيام ولادتها، لا أعلم كيف سيكون حالها في هذه المعركة الشرسة وهي لا تلد إلا بعملية قيصرية.
حاول علي بعد يأسه الاتصال بصديقهِ منهل الذي يسكن ب"عوجة" قريبة من عوجة إخوته، (العوجة: زقاق ضيق جداً في لهجة الموصل).
يرد منهل:
ـ أهلاً علي.
ـ طمني ما أحوال المنطقة وأين أنتم الآن؟
ـ المنطقة دخلها الجيش وتحررت، لكنها ما زالت تحتَ مرمى صواريخ التنظيم الإرهابي، ولن يتوقف هذا إلا إذا تقدم الجيش أكثر.. نحنُ الآن نسير على الأقدام، نحاول الابتعاد عن المعركة والوصول لمكان آخر.
ـ على الرحب والسعة لو استطعتم الوصول لمنزلنا.
ـ شكراً يا علي؛ منزل أختي قريب على بعد نصف ساعة وهو فارغ لأنهم نزحوا إلى الإقليم، سنقيم فيه إلى أن يشاء الله.
ـ أتعلم شيئاً عن إخوتي يا منهل؟ لقد فقدت الاتصال معهم.
ـ عذراً يا علي، الأخبار لا تسر.. قصف المنزل بصواريخ أمريكية لوجود مقاتلي التنظيم الإرهابي على سطحه، تحول المنزل والمنازل المحيطة به إلى جبال من الركام، فقدت المنطقة معالمها، لم نعد نعرف هذا المنزل من ذاك. إخوتكَ وبعض الجيران كانوا مختبئين في سرداب المنزل الذي طمر بالأنقاض.
شهقات، دموع تخنق علي، بكاء الرجال وعجزهم عن نصرة مَن يحبون؛ هكذا كان حال علي وكثير من أبناء الموصل.
. . . . . . . . .
على عمق مترين تحتَ حوش دار خالد وعاصم في ذاك السرداب الذي يتفرع منه سرداب آخر على عمق متر؛ ترتفع فيه الرطوبة ونزيز الماء، ولا يحتوي إلا على بعض القضبان الحديدية.. التجأت إليه عائلة خالد وعاصم وبعض الجيران ليصل العدد إلى خمسة وثلاثين شخصاً؛ أطفال، نساء، ورجال، شباب وكبار سن، لم يجدوا لهم ملجأ من المعارك إلا ذاك السرداب مصطحبين معهم أشياءهم المهمة وبعض الزاد من عسل التمر، التمر، الطحينة، الخبز والماء، مع بعض المفروشات والبطانيات.
يسقط الصاروخ على المنزل، يهوي المنزل والمنازل القديمة من حوله، تتحول لجبال من الركام، طمرت باب السرداب بالكامل والشبابيك، الغبار وبعض الركام الذي دخل السرداب حجب الرؤية وكأنهم داخل عاصفة رملية في وسط الصحراء، الأنفاس ثقيلة، لا أُكسجين، وكأنهم أموات في قبر جماعي، صراخ وعويل الأطفال والنساء، هلع الرجال؛ ليس هناك من سامعٍ، سكن الغبار واستقر الركام، سُدَّت المنافذ، بدأ الأُكسجين يقل، يحاول الجميع ارسال رسائل إنقاذ لذويهم، دون جدوى؛ لا إرسال من تحت هذه الأنقاض.
عاصم:
ـ أيّها الرجال علينا أن نستخدم القضبان الحديدية، نزيل الركام من درج السرداب، الباب مفتوح للداخل؛ لكن الركام أغلق المدخل تماماً والشبابيك، لا علم لنا حجم وارتفاع الركام ولكنه يبدو هائلاً.. سنحاول دفع ما نستطيع من الداخل لعلنا نجد لنا مخرجاً.
أزال الرجال الركام من الدرج، كلما حاولوا إزالته من المدخل إنهار الركام أكثر وأغلق المدخل وتساقط على الدرج وأثار الغبار، والحال يسوء أكثر، فأكثر.
تزداد حالة الهلع لدى الجميع، شحة في الطعام والماء، اضطرهم لإخفاء الطعام عن الأطفال والاكتفاء بوجبة واحدة بسيطة، وهكذا هي الأقدار حيثُ بدأت آلام المخاض عند أنوار زوجة خالد.
خالد:
ـ أرجوكم اهدؤوا لا جدوى من إزالة الأنقاض.. ما نفعله يزيد الأمر سوءاً، ها هي النافذة الأخيرة لم يتغط جزؤها العلوي بالأنقاض وهذا من رحمة ربي ليستمر الهواء يدخل إلينا.
عاصم:
ـ من المؤسف أن عليها قضبان حديدية وشبكة حديدية، فلا أمل للخروج منها.
تزداد الرائحة النتنة من مخلفات تغوطهم في السرداب السفلي، تنشط عليه الصراصير والديدان، والفئران.. يزداد أنين وصراخ زوجة خالد.. يحاول خالد أن يتسلق ليصل النافذة المفتوحة محاولاً إرسال رسالة لأخيه علي طالباً العون، لكن لا إرسال ولا استقبال لأي إشارة.
تحاول السيدة صبرية أن تساعدها ببعض التدليك وقراءة سورة مريم.
خالد:
ـ أرجوك يا سيدة صبرية أنتِ ممرضة متقاعدة بالتأكيد لديك خبرة، أرجوكِ حاولي توليد أنوار.
ـ أنا ممرضة، لكني لم أعمل في التوليد، وها أنا أحاول مساعدتها دون جدوى ولكن الرحم لم يفتح، لا بد من عملية قيصرية، كيف لي أن أفعل هذا دون خبرة، فهذا عمل الأطباء، ويحتاج إلى مواد تعقيم وتخدير ومشرط وأجهزة عمليات أخرى.. الأمر صعب يا خالد .
ـ ما الحل أرجوكِ، أرى حالتها تزداد سوءاً؛ إن لم نفعل شيئاً سنفقدها والجنين.
ـ نعم يا خالد، حتى أنها بدأت تغيب وتعي وحرارتها مرتفعة جداً.
الكل يحاول المساعدة ويرسل رسائل لذويهم دون جدوى.
يخرج خالد سكين الخضار متجهاً للسيدة صبرية مترجياً:
ـ أرجوكِ افتحي بطن أنوار ورحمها وأخرجي الجنين لعلنا ننقذها والجنين.
ـ اعذرني يا خالد، لا أستطيع وهذه مسؤولية.. أرجوكِ إن كان هذا الحل فعليكِ أنتَ أن تفعل، سوف أساعدكَ وأدلكَ أين تجرح.
يقدم خالد تجاه أنوار والدموع تنهال والأيدي مرتجفة وأنوار بين الوعي والهذيان، عويل وصراخ النساء من حولهم؛ يشرط خالد أسفل بطن أنوار واصلاً رحمها دون أيّ تعقيم وتخدير، تصرخ أنوار وتضرب الأرض بقدميها ويديها بكلّ عنف.. تحاول النساء السيطرة عليها.. يتدفق الدم بغزارة.. تحاول صبرية إيقافه بالضغط بالملابس والفوط دون جدوى..
تنطق أنوار بالشهادة وتسلم الروح ليصرخ بعدها جنينها وليد باكياً معلناً بدء حياته يتيماً دون أمومة.
يخيم الذهول والحزن على الجميع، شبح الموت يحوم حولهم، ها هي أول جثة ركنت في بطانية في زاوية السرداب.. رعب يصيب الأطفال بالذات إيمان ابنة أنوار ذات الثلاثة أعوام.
تحاول صبرية أن تمزج قليلاً من الماء مع السكر أو عسل التمر وتضعه في فم وليد محتضنته لعله يخلد للنوم.
الجوع، الخوف، الحزن، اليأس يسرمد الليل على الجميع..
تزداد الرائحة النتنة مع فساد الدم الذي ينزف من جرح أنوار رغم وضع الملابس والفوط وبطانية لتغطيتهِ.. لا فرق بين الليل والنهار في ذلك المكان سوى تلك الاشعاعات القليلة التي تدخل من أعلى تلك النافذة لتعلمهم ببزوغ الفجر وإشراقة الصباح.
صبرية:
ـ يا خالد، رائحة جثة أنوار وفساد الدم تملأ المكان.. الدم الفاسد سرعان ما تنتشر فيه الميكروبات الدقيقة المسببة لأمراض قاتلة قد تصيبنا جميعاً خلال ساعات.
ـ وما السبيل يا سيدة صبرية؟
ـ إكرام الميت دفنه.. تعاون مع الرجال باستخدام القضبان الحديدية واحفروا قبراً في السرداب السفلي وادفنوا الجثة، هو خير لها ولنا.
وهكذا كان ذلك السرداب المثوى الأخير لأنوار.
عاصم:
ـ أيّها الرجال ساعدوني لنقل الأنقاض ووضعها تحت تلك النافذة في أعلى الجدار، لأتسلق عليه، الركام لا يطمرها..
سوف أمزق الشبكة الحديدية فقط، لا أظن باستطاعتنا خلع القضبان الحديدية، عندها سنحاول إزالة الركام فهو لا يبدو كثيراً.. وسأضع الهاتف على القضيب الحديدي وأخرجه من النافذة قدر المستطاع لعل الرسائل ترسل.
. . . . . . . . .
يهب علي صارخاً:
إشارة، إشارة وصلت من هاتف عاصم.
زوجة علي:
الحمد لله إذن هم أحياء.. رن عليهم لعلنا نطمأن على أحوالهم.
ـ أحاول دون جدوى، يأتي الرد بأن الهاتف خارج نطاق التغطية أو مقفل.
هذه إشارة من هاتف خالد أيضاً.. أكيد هم أحياء ولكنهم في مأزق في ذلك السرداب كما قال منهل؛ يحاولون طلب العون والإنقاذ.
ـ وما السبيل؛ المدينة في فوضى وخراب، معارك مستمرة، لا خدمات، لا يوجد إلا القوات العسكرية وهي منهمكة في المعركة التي أشتد وطيدها في الجانب الغربي.
ـ سوف أناشد أبناء العمومة والجيران والأصدقاء، نأخذ معنا معاول ونقوم بمهمة إزالة الأنقاض.. هو السبيل الوحيد.
. . . . . . . . .
يصل علي مع من تطوع معه إلى مدخل محلة إخوته..
استوقفتهم القوات الأمنية لخطورة المكان واستمرار سقوط قذائف وصواريخ التنظيم الإرهابي على المحلة محاولة منهم النيل من قوات الجيش ومَن تبقى من المدنيين.
علي:
ـ أرجوكم هل من فرق خدمات لإزالة الأنقاض.. إخوتي ما زالوا أحياء ومعهم آخرون.
ـ لا يوجد خدمات ولا سبيل للمجازفة.. بالتأكيد هم أموات الآن وهذه إشارات قديمة لربما وصلت الآن والهاتف يعمل لوحده.. السرداب طمر بجبال من الأنقاض وهذا الحال لمدة أيام، فلا أحياء بعد هذه المدة.
ـ إذن دعونا نقوم بالمهمة لنقطع الشك باليقين.
ـ لكنكم تغامرون بأرواحكم، ستنال منكم صواريخ التنظيم الإرهابي.
ـ لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا.
وتحت صهيل المعركة وصل علي والمتطوعين إلى مكان السرداب.. سمع مَن في السرداب أصواتهم وكانوا طوق النجاة لهم، هبُوا إلى النافذة المفتوحة يحدثونهم ودموع الفرح والحزن تختلط لدى الجميع.
علي:
ـ لا جدوى من إزالة جبال الأنقاض من فوق مدخل السرداب لأنه سينهار أكثر ولربما يطمر السرداب بالكامل..
الحل الأمثل تلك النافذة المفتوحة؛ نحاول أن نهد بحذر من حول القضبان الحديدية، ثم نزيلها، هكذا نؤمن مخرج آمن للجميع.
ينجح علي والمتطوعين بخلع القضبان؛ ينقذ الأطفال، فالنساء والرجال، وكانوا خمسة وثلاثين فرداً.. خرج الجميع سالمين إلا أنوار كان السرداب مثواها الأخير.....
سحر الرشيد
فانكوفر/ كندا September 3/2024


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق